وبقى منها حطام انثى بقلم منال سالم
تخفي خلف قناع بسمتها كثير من الآلم ..
مسحت عبراتها بكفها وشردت أمامها تفكر في مصېبة تلك السيدة .. أي شيء يمكن أن يقارن بخسارة الأبناء والأحفاد أي قدرة عظيمة جعلت تلك السيدة تتحمل فراقهم المؤسف بتلك الشجاعة العجيبة ..
إنها تعاني من فاجعة أشد وأقوى من مصيبتها التي لا تذكر .. توقف سيل عبراتها وأخذت تفكر بشكل آخر ..
فهمتي يابنتي مفيش حاجة تستاهل وكلنا ماشيين في يوم
حركت إيثار رأسها بتفهم وقد شعرت بالحنين لذلك الذي توارى أسفل التراب أبيها الراحل .. ذاك الذي قضت سنواتها الأخيرة بعيدة عنه تبغضه لفعلته في حقها وهو لم يكن يسعى سوى لراحتها وسعادتها .. حتى وإن كانت طريقته خاطئة ..
دوى صوت الرعد في المكان وظهرت الخيوط الضوئية البراقة البرق في السماء وبدأت السماء تهطل كما غزيرا من الأمطار ..
ارتجفت إيثار قليلا ورفعت وجهها للأعلى وهي تطبق على جفنيها لتترك العنان لتلك القطرات الباردة لتهديء من سخونة وجهها وتمسح بقايا الدموع عنها ..
تناجت مع الله بقلبها ودعته أن يدخل السرور على تلك العجوز التي أزاحت ثقلا عنها .. ثم تمنت منه بتضرع أن يقر عينيها بفرحة تدمع لأجلها فإنها بحاجة ماسة لها .
ألقى بجسده المنهك على الفراش ثم انحنى بجزعه للأمام ليستند بساعديه على ركبتيه ..
زاد حنقه وبرزت عيناه پغضب ..
فرك وجهه بعصبية وردد مع نفسه إن كان هو قد
عانى قيراطا فهي تحملت الأربع وعشرون قيراط بمفرده ..
هي لم تكن معذبته وقاټلة فؤاده كما ظن بل كان هو مشاركا بدون وعي في الچريمة النكراء التي أرتكبت بحقها ..
انقطع شروده فجأة عندما ولجت روان للحجرة وهي تحمل الصغيرة ريفان فجاهد مالك لكي يخفي عنها ملامحه العابسة المكفهرة ولكنه لم يستطع فعل ذلك ..
دنت منه لتجلس جواره ثم مسحت على ظهره بحنو وهو تردف متساءلة
مالك ! ليه عملت كده معاها
هي متستاهلش كده !
أخذ نفسا عميقا وحپسه في صدره المټألم ثم زفره على مهل والټفت نحوها ليسألها بإندهاش متعجب منها
و.. وانتي عرفتي أزاي
أجابته روان وهي تعض على شفتيها بضيق
سألت راوية وقالتلي أنك طردتها ..
نظرت له بعتاب كبير وسألته بخفوت يحمل اللوم
ليه يامالك دي .. دي إيثار !
نهض عن مكانه بشكل متشنج ثم هتف بلهجة منفعلة ليواري على فعلته
هي اضطرتني لكده !
أولاها ظهره وتابع بصوت محتد
وياريت نقفل على الموضوع ده ياروان .. ده يخصني ومحبش حد يدخل فيه !
ردت عليه روان بتوتر وهي تنهض عن مكانها متمسكة بالصغيرة جيدا
انا مقصدش أدخل بس انت من ساعة مارجعت وانت متغير .. دايما عصبي وعلى طول بتزعق !
_ شهق بأنفاسه ثم زفرها بتمهل لكبح الشحنة المتأججة التي تستعر بداخله ثم مسح بكفيه على وجهه وهو يهتف بنبرة خاڤتة مدعيا الهدوء
مفيش حاجة بتفضل على حالها
الټفت إليها ثم رمق صغيرته بعطف معتاد منه عليها وهتف بنبرة حزينة يغزوها الضيق
خدي ريفان وأكليها مش عايزها تحس بفرق !
ردت عليه روان وهي تهز وأسها بتفهم
متقلقش هي أكلت العشا بتاعها .. !
تحركت مبتعدة وأضافت بحذر
انا هسيبك مع نفسك عشان عارفه انك محتاج تقعد معاها وتعيد حساباتك !
_ غادرت الحجرة لتتركه في تخبطه وذبذبة أفكاره ومشاعره فأصبح الآلم لديه أضعاف مضاعفة ..
تمنى لو لم يعرف بما حل بها وليته لم يعد لتلك المدينة التي طالما جمعتهما سويا ..
والآن هي تشهد على تعذيبه لها ..
تنهد بقلة حيلة ثم توجه لخزانة ملابسه بشكل غير ارادي ..
وإذ بمقلتيه تقع على تلك الآلة الموسيقية من جديد ...
آلة الكمان التي أهدته إياه زوجته الراحلة ..
فأبتسم إبتسامة طفيفة سريعا ما تلاشت ثم مد يده ليلتقطها ..
أزاح عنها الغطاء الحافظ لها ثم أسندها على كتفه وبدأ في عزف لحنه الحزين المؤلم فلمس أوتار قلبه الملتاع وصميمه ..
أغمضت عيناه ليستسلم لتلك النغمات الشجية فلاح طيفها في مخيلته ..
اتسع ثغره بإبتسامة باهتة ولكنها اختفت بعد لحظات ..
وعلى حين
أجابها مالك بهدوء محاولا عدم إظهار نيته لها
عشان أخر مرة مشيت
انا وانتي بسرعة وأكيد زعلت .. يالا بس بسرعة
أجابته روان وهي تحرك كتفيها بعدم فهم
اللي يريحك
التوى ثغره بإبتسامة واثقة ومسح على رأسه بهدوء فربما ما فرقهما يوما سيعيدهما إلى بعض من جديد ............................
.................................................................
وبقي منها حطام أنثى
الفصل السابع والعشرون الجزء الثاني
وما ضرني غريب يجهلني
وإنما أوجعني قريبا يعرفني
لم تعد تطيق إخفاء مشاعرها المټألمة بل الأحرى أنها لم تعد ترغب في الهروب والإختباء ..
كفاها معاناة في صمت ..
كفاها إرهاقا لروحها المعذبة ..
هي تحتاج لمن تشكو إليه وتبوح له بما يجيش في صدرها .. وتروي عما ينهش بقايا روحها .. فمن ذاك الذي سيصغي إلى أوجاعها
إنزوت في غرفتها واعتزلت كل شيء ..
شعر هو بها .. لقد تبدلت أحوالها في الأيام الأخيرة وحل عليها الوجوم واكتسى وجهها الرقيق بالحزن ..
لقد
عادت كما كانت منذ انفصالها فما الذي جد ..
لم يستطع الصمت تلك المرة فهي أخته وهو عاهد أبيه أن يكون سندها أن يهون عنها آلامها .. فلم يتردد وولج إليها في غرفتها ..
مسحت عبراتها حينما رأته يقف أمامها وابتسمت بسخرية ..
جلس إلى جوارها على طرف الفراش ونظر لها بحنو وهو يسألها
في ايه يا ايثار
لم تمنع نفسها من البكاء أمامه وارتمت في أحضانه لتخبره بذلك العبء المثقل في قلبها .. فهو في النهاية شقيقها ويحمل زمرة ډمها ..
سردت عليه ما حدث كاملا منذ بداية إلتحاقها بالعمل عند مالك وما آلت إليه الأمور ..
لم تخش من ذكر التفاصيل دون حذف أو تجميل ..
بل على العكس هي شددت
على ذكر ما تشعر به حياله وكيف لم يتوقف قلبها عن النبض من أجله ..
ربما ظنت أنها لم تعد تحبه ولكن منذ تجدد اللقاء بينهما وهي أدركت أنها غارقة في عشقه ..
استشعر عمرو حديثها كاملا بقلبه تلك المرة وأنصت لها بآذان محب مثلها ..
ولما لا فهو متيم بروان .. تلك الشقية التي كان ينبذها يوما وبين ليلة وضحاها باتت شغفه ..
لمست كلماتها قلبه ورق لها وأخذ ېعنف حاله على تسببه فيما وصلت هي إليه .. وبعد أن انتهت من البوح بمشاعرها وجدته يحتضن رأسها بين راحتيه ثم نطق هامسا بنبرة عاطفية تحمل العتاب
كنتي قولتيلي من الأول يا إيثار ليه شيلتي كل ده لوحدك !!!
ردت عليه إيثار بنبرة متآلمة وهي تحاوط كفيه براحتي يدها
عشان مينفعش حد يشيله معايا بس النهاردة حسيت إن كده كتير عليا وكان لازم أتكلم مع حد !
مسد عمرو على شعرها ثم أعاد خصلاته خلف أذنيها وهو يتساءل بإهتمام
طب وقررتي تعملي إي
أجابته إيثار بلهجة قوية عنيدة تحمل من الكبرياء الكثير
هعمل كل اللي أقدر عليه عشان أقنع صاحبة المكتب تخليني أشتغل عند ناس تانية .. مقدرش أروح هناك تاني بعد ما طردني وحسسني بإني أقل من أي حد كفاية أوي كده !
تنهد بحزن واضح ..
تغيرت شقيقته ونضجت ..
جعلتها الظروف تقهر كل شيء يحاول العصف بها لتنهض لوحدها من جديد ..
ابتسم لها عمرو بحنو وربت على ذراعيها ودعمها قائلا
انا واثق في اللي هتقرريه وهسيبك على راحتك !
ردت عليه وهي تومئ برأسها
ماشي
نهض عمرو من جوارها ثم أشار بيده للخارج وهو يقول
هطلع أشوف ماما وانتي ارتاحي ونامي شوية !
هزت رأسها موافقة فانصرف من حجرتها ..
اعتدلت في جلستها ونظرت حولها بفتور ثم استندت بظهرها على مؤخرة الفراش وتنهدت بعمق لتطرد تلك الشحنات السلبية عن صدرها ..
مدت يدها لتمسك بإحدى المذكرات خاصتها وبدأت ترسم بقلمها الړصاصي هي لا تفقه شيئا عن فن الرسم ولم تجربه قط .. ولكنها اكتشفت أن لديها حركة يد خفيفة ماهرة تمكنها من الرسم بحرفية. . فابتسمت لنفسها بسخرية .. ولكنها استمتعت بما تفعله ..
في هذا الآن وصل مالك إلى منزل عمته و معه الصغيرة ريفان وشقيقته ..
جلس الجميع جلسة ودية أسرية تطرقوا فيها للحديث في مواضيع عامة ...
انتقى مالك الوقت المناسب لينفذ مخططة الذي جاء خصيصا إلى هنا من أجله دون أن يثير الشكوك
هو عزم على عدم الاستسلام أو اليأس مع أول محاولة لصده منها ..
هي ملكه حبيبته .. ومعذبة فؤاده .. وهو سيستعيدها من جديد ..
نعم سيجتهد للوصول إليها أيا كانت النتائج ..
هداه تفكيره المتهور بالذهاب إليها في منزلها ..
ولكن ما استوقفه عن تنفيذ ذلك هو رد فعل أخاها عمرو تجاهه خاصة بعد مواجهتهما الأخيرة والحادة .. فقرر اللجوء لتنفيذ مخطط أخر. ...
_ ولج لحجرته القديمة ثم فتح النافذة وأطل منها لينظر للأعلى بشغف المحب العاشق ..
كان ضوء غرفتها مضاء فأستنبط أنها تمكث بها ..
زادت حماسته وبدأ يتأهب للتنفيذ ..
عاد لداخل الغرفة و أخرج آلته الموسيقية ثم عاد ليقف في الشرفة ..
أخذ نفسا عميقا حپسه في صدره ليسيطر على الارتباك الرهيب الذي يجتاحه ..
زفر أنفاسه على مهل وأغمض عينيه ليبدأ العزف على كمانه بعذوبة ساحرة بنفس اللحن القديم ..
نعم هو عزفه من أجلها مسبقا قبل سنوات وها هو اليوم يقف في شرفته يعيد على مسامعها ألحانه الشجية ..
ألا تشفقين علي حبيبتي
ألا تغفرين خطيئتي
أنا المتيم العاشق لترابك محبوبتي
تناغمت ألحانه مع إحساسه الصادق ففتح عيناه ليحدق بالأعلى مترقبا تلبيتها لنداء عشقه ...
............................
خفق قلبها وبقوة وتحرك في مكانه على إثر سحر نغماته .. شعرت بحالة من اللهفة له وقد زاد شوقها إليه ..
أكلها الحنين لسماع ألحانه
لرؤيته
للمس كفه ..
هي تشعر بالحياة