رواية رحلة الآثام (كاملة الى الفصل الأخير) بقلم منال سالم
يتجاوز طوله منتصف خصره رسم ابتسامة متكلفة على ثغره مرددا بتبرير
أنا حبيت أساعد.
كرر عليه رفيقه بتصميم شديد اللهجة
دي حاجة تخصني مع ابني!
نهض من جواره بوجه منقلب وهتف بعبوس مصحوب بنظرة ڼارية مسلطة على أوس تحديدا
اللي تشوفه.
النظرة الجادة في عيني مهاب مع نبرته الهادئة كانتا وسيلته لإقناع صغيره بالتخلي عن عناده الطفولي فاستطرد على مهل
بعد لحظة من الصمت المترقب اكتفى أوس بهز رأسه بالموافقة فاستحسن والده ردة فعله وقال في مدح
برافو عليك.
أخذه إلى حضنه وهمس له بشيء في أذنه لم يتمكن ممدوح من سماعه أو تفسيره بوضوح ليخاطب بعدها مهاب المربية بلهجته الآمرة
ردت باسمة
سمعا وطاعة.
ثم ضمت الصغير من كتفيه واصطحبته إلى الخارج ونظرات ممدوح عليهما حتى غابا عن المشهد ليقهقه هازئا وهو يعيد ملء كأسه بالخمر
حتى ابنك عرفت تضحك عليه!
تأمله مهاب مليا وبنظرة غامضة قبل أن يرد عليه
ومين قالك كده
توقف قبل أن يرفع الكأس إلى فمه متسائلا في ذهول مندهش
معقولة هترجع تهاني تاني
أيوه.
رغم أن سنوات الصداقة بينهما ممتدة إلا أنه لم يستطع سبر أغوار ما يدور في رأسه بسهولة تحرك ممدوح صوبه مرددا في استغراب حائر
إنت غريب بجد وأنا مابقتش فاهمك بصراحة.
ترك حيرته تأكله فاغتاظ من تجاهله المستفز وسأله في تبرم وهو يعاود الجلوس
لما إنت هتردها تاني ليه من الأساس طلقتها
بدا مهاب لحظتها وكأن نظراته شردت بعيدا متذكرا الشجاعة التي كانت عليها في مواجهته ليقول بعدها
بربيها أو تقدر تقول بكسر مناخيرها وأذلها أكتر.
ظل رفيقه يتابعه بعينين تعكسان تعجبه من موقفه ومهاب لا يزال يتكلم
مش عاوزها في يوم تشوف نفسها عليا.
علق عليه ممدوح مشيرا بيده
نظر تجاهه واستطرد ساخرا بكلمات مبطنة كان متأكد أن مغزاها وصل إليه كاملا
كفاية الدلع اللي شايفاه على إيدي.
تصنع الضحك وأخبره غامزا بعينه
وإنت سيد مين يدلع .. بالكرباج!
ضغط على كلمته الأخيرة ليشير إلى ساديته ووحشيته في التعامل مع زوجته وإھانتها دوما. ابتسم
مهاب في فخر ورد
بالظبط.
دون كلام عرض ممدوح على رفيقه إعادة ملء كأسه بالمشروب فوافق وأعطاه له نهض للمرة الثالثة ليعبئ الكأس مستطردا في مكر
وسد مهاب ذراعه خلف رأسه ليستريح عليه وسأله مستفهما
ناوي على صيدة جديدة
التف ناظرا إليه وهو يؤكد له شكوكه
يعني حاجة زي كده والفلوس اللي معايا خلصت.
وقتئذ قام مهاب واقفا واتجه إلى الخزانة الموضوعة بجوار المكتب على طاولة صغيرة مستقلة فتحها بمفتاحها الذي أخرجه من جيب بنطاله وأخرج من رزم الأوراق النقدية اثنتين ألقاهما على سطح مكتبه في إهمال ثم أشار لهما قائلا بلهجة بدت آمرة
خد دول.
لم يمانع ممدوح أي لهجة يخاطبه بها المهم أن يحصل على ما يجعله دوما يظهر بشكل مادي لائق أمام علية القوم. ناوله كأسه المملوء بالشراب المسكر وسار نحو المكتب ليلتقط النقود وهو يشكره في نبرة تضمنت لمحة تهكم
تسلم يا صاحبي ومبروك مقدما.
أخذت الكلمات تنسل من جوفه متدافعة كالسيل وهو يقص على زوجته الوظيفة التي حصل عليها مصادفة وإن كانت تفاصيلها غير واضحة بعد. انعكست الفرحة عليه وأراد مشاركة حماته سعادته فاستأذن بالدخول إلى غرفتها. ظلت الحماسة تشوب صوت عوض وهو يكلمها بوجه بشوش ونظرات متفائلة
أهل الخير كتير وإن شاءالله يا حاجة هنوديكي عند أحسن دكتور في البلد.
ثم استدار برأسه متطلعا إلى زوجته ليكمل باقي جملته
الشيخ عبد الستار وعدني هيكلم حد من معارفه وهيتكفل بكل حاجة.
ردت فردوس في رجاء طامح
ياه لو ده حصل يا عوض.
أكد لها عن يقين
هيحصل استبشري خير بس.
ارتكزت نظراتها على جسد والدتها المسجي على الفراش وقالت بعينين تلمعان بالدموع
نفسي أشوف أمي واقفة على رجلها من تاني.
نهض واقفا ليدنو منها ربت بخفة على كتفها هاتفا
بإذن الله احنا هنعمل اللي علينا وربنا يكرم.
لفظت الهواء بقوة وعقبت
يا مسهل الحال يا رب.
بعدئذ تجاوزته فردوس لتقترب من فراش والدتها تطلعت إليها وهي تمسح الدموع العالقة في أهدابها متسائلة
سامعة يامه الكلام
چثت على ركبتها أمامها وراحت تضيف في صوت مفعم بالأمنيات
بكرة هتخفي وتروقي وترجعي تنزلي الحتة وتنوريها.
التعبير الجامد على وجه والدتها بالإضافة
لاتساع نظراتها جعل قلبها ينقبض ويتوجس خفية من وقوع ما تخشاه هزتها في توتر وهي تسألها بجزع
إنتي ما بترديش مالك يامه
صاحت في لوعة منادية زوجها الذي كان قد خرج لتوه من الغرفة ليبدل ثيابه
إلحق يا عوض أمي مابتردش عليا.
هرول ركضا تجاه السرير وقام بفحصها ظاهريا بينما زوجته تسأله بقلب منخلع
هي جرالها إيه
أدرك أن ملك المۏت قد زارها واسترد الخالق وديعته فالټفت مواجها زوجته مرددا
لا إله إلا الله إنا لله وإنا إليه راجعون.
بهتت ملامحها كليا وجحظت بعينيها متسائلة في صوت مرتعش كأنما ترفض تصديق الحقيقة المفجعة
يعني إيه
ضمھا إلى صدره ليقول في حزن مواسيا إياها
هي راحت عند اللي أحسن مني
ومنك ادعيلها يا فردوس.
باتت شكوكها صحيحة
وفارقتها أمها للأبد لتظل بلا حضڼ يأويها ولا أمان يحتويها انفلتت من أعمق أعماقها صړخة مليئة بكل الۏجع واللوعة
يامه!
بمجرد أن عادت إلى بيته والتقت به انهالت عليه بعشرات القبلات بلا توقف كأنما تعوض ما فاتها خلال فترة حرمانها منه ولما لا والسعادة كلها تجتمع في حضنه البريء المنزه من شرور من حوله زادت تهاني من ضمھا إلى صغيرها في أحضانها واعترفت له بنبرة مشتاقة للغاية
أوس! حبيبي وحشتني أوي.
فرت من مقلتيها دمعات متأثرة وهي تخبره
أنا كنت خاېفة أتحرم منك.
حاوطها الصغير بذراعيه وتعلق في عنقها مخاطبا إياها
ماما ماتسبنيش تاني.
بلا تفكير أكدت له
حاضر يا حبيبي أنا هفضل جمبك طول العمر مهما حصل.
قطع لحظة تواصلهما العاطفي المشحون بمشاعر المحبة والشوق صوت مهاب المتسائل في غلظة طفيفة فقيدها الخۏف ارتياعا من احتمالية إقصائها مجددا
خلصتي سلام
أدركت أن وراء قدومه شړا مستترا توقفت مرغمة عن احتضان صغيرها ونظرت تجاهه في بغض غير قابل للشك قبل أن ترد بملامح عابسة
أيوه.
نظرته الممېتة المسددة إليها جعلت معدتها تتقلص ارتفع حاجباها للأعلى في إنكار عندما قبض على كفها ليضع في يدها طوقا من الجلد وهو يأمرها
حطي ده حوالين رقبتك.
سألته بصوت مال للارتجاف
إيه ده
أحنى رأسه على وجهها كأنما يريد تقبيلها من وجنتها لكنه همس لها في هسيس شيطاني
عايزك تجيلي زاحفة من هنا لحد الأوضة عندي ويا ريت ماتتأخريش ده لو حابة تفضلي هنا.
تخشبت وانتفض داخلها لهنيهة محاولة استيعاب فجاجة ما يطلبه منها بوقاحة منقطة النظير سرعان ما اشتاطت نظراتها بشدة ومع ذلك لم تجرؤ على الاحتجاج بكلمة لتردد في جنبات نفسها
ربنا ينتقم منك يا ظالم.
حاولت مواراة ما يعتريها من إحساس بالألم والقهر بابتسامة ناعمة داعبت ذقن صغيرها تطلب منه في رقة
حبيبي ممكن تخليك في الأوضة لحد ما أروح أشوف بابا عاوز إيه
تعلق بيدها بكلتا قبضتيه وهتف في تجهم وبجبين مقتضب
ماتمشيش!
استلت بصعوبة يدها منه لتمسح على رأسه في حنو أبقت ابتسامتها حاضرة على شفتيها وهي تؤكد له
أنا راجعة تاني.
ثم أحنت رأسها على جبينه لتقبله منه مطولا وهي تسمعه بصدق
بحبك.
ما إن أغلقت باب غرفة صغيرها حتى أمسكت بالطوق المعدني الذي أعطاه لها ونظرت إليه بعينين متحسرتين طافت ببصرها حولها وجدت الخدم متراصين كأن الأمر قد جاءهم بالبقاء وانتظار ما تفعله تيقنت أنه يمعن هذه المرة في إذلالها بشكل لا يمكن نسيانه لئلا تفكر مجددا في مناطحته الرأس بالرأس حاولت ألا تبدو منهزمة محطمة فادعت ثباتها ورفعت الطوق بعدما فردته إلى عنقها لتقوم بلفه حول رقبتها أحكمت ربطه
برافو أحبك وإنتي بتسمعي الكلام كده!
سمح لها بالمرور زحفا للداخل ليغلق الباب ورائها كانت على وشك النهوض لتقف مستقيمة لكنه جمدها في مكانها بإشارة من سبابته فظلت على وضعها المهين ومع ذلك سألته بصوت جريح
بفهمك وضعك إيه هنا يا دكتورة...
نظرت له بعينين ضيقتين تكنان له كل كراهية
الدنيا فأكمل برد قاس كالسهام فأصاب كبريائها في مقټل
أوعي تفتكري عشان الناس بتحترمك برا بقالك قيمة!! أنا اللي عملتك وأنا برضوه اللي أقدر أكسرك وأهدك!
كل خير يا ... مراتي الحلوة!
من قال أن الأحزان تخبت بمرور الشهور والأيام بل إنها تزداد عمقا وترسخا في الوجدان! عام كامل انقضى على رحيل والدتها ورغم ذلك لم تنس هذه اللحظة العصيبة التي عاشتها بكل جوارحها أصبح الحزن الكبير من نصيبها ملازما لها كما كان معها من قبل لم يتغير أي شيء حولها سوى أنها باتت بالفعل وحيدة تعيسة متباعدة بمشاعرها حتى عن زوجها. مدت فردوس يدها ووضعت كوبي الشاي الفارغين في الصينية ونظرت إلى جارتها إجلال عندما خاطبتها بصوت شبه معاتب
بقالك سنة ياختي لابسة أسود مش ناوية تقلعيه كفاية حزن بقى!
ردت عليها بمرارة
وإيه يفرح في دنيتي عشان ألبس ملون عليه الحزن معشش خلاص جوا القلوب.
تأثرت لحالها وتعاطفت معها بشدة فحاولت تخفيف وطأة ما تعايشه بكلامها المطبب لجرجها الذي لم يندمل بعد
هوني على نفسك يا دوسة.
بالكاد حاولت مغالبة دموعها القريبة وهي تعقب عليها
أنا بقيت مقطوعة من الدنيا.
شعرت إجلال وكأنها عاجزة عن مواساتها فحاولت تغيير الموضوع لآخر وسألتها بشكل عفوي
ولسه برضوه مافيش أخبار عن تهاني
حينئذ اسودت ملامحها واشټعل وجهها على الأخير لټنفجر فيها پغضب مشحون
ماتجبيش سيرتها الجاحدة الظالمة بنت ال ... دي كفاية إنها جابت المړض والعيا لأمي وفي الآخر ماټت بحسرتها عليها هي دي أخت دي!!!
بحذر واضح قالت
الله أعلم ظروفها إيه!
واصلت هجومها العدائي عليها بشراسة فانطلقت الكلمات اللاعنة من بين شفتيها كالسيل العرم
ربنا يجحمها مطرح ماهي أعدة إن كانت حية ولا مېتة ولا تشوف طيب أبدا
لا دنيا ولا آخرة!
ندمت جارتها للفكرة غير الموفقة في الحديث عن شقيقتها ورجتها بضيق منزعج
خلاص بقى صلي على النبي في قلبك.
نفخت فردوس عاليا وهي ترد
عليه الصلاة والسلام.
نهضت إجلال دافعة كرسي طاولة السفرة للخلف قليلا وقالت بإصرار وهي تجمع ما تبقى من أطباق كانت مملوءة بالفاكهة والبسكويت
عنك أنا هودي الصينية المطبخ وأشطف اللي فيها.
اعترضت عليها فردوس قائلة
مافيش داعي تتعبي نفسك الحكاية مش مستهلة.
صممت بترحاب
ولا تعب ولا حاجة.
غابت بعدئذ لدقائق في المطبخ ريثما انتهت من تنظيف كل شيء لتخرج وهي تمسح يديها المبللتين في جانبي عباءتها متحدثة إلى فردوس
أنا هنزل دلوقتي شقتي وأبقى أفوت عليكي وقت تاني خدي بالك من نفسك يا حبيبتي.
أنهت جملتها وهي تقبلها على وجنتيها بالتتابع لترد عليها الأخيرة باقتضاب
طيب.
ألقت عليها التحية قبل أن