الأربعاء 27 نوفمبر 2024

رواية رحلة الآثام (كاملة الى الفصل الأخير) بقلم منال سالم

انت في الصفحة 50 من 79 صفحات

موقع أيام نيوز


عوض في ركن من ردهة المشفى وجلس القرفصاء ثم رفع وجهه المهموم للسماء ليتضرع إلى المولى بكل أمل ورجاء أن ينظر إليه بعين الرحمة وينجيه مما هو فيه. تأملته فردوس بإشفاق كانت تشاركه حزنه وألمه وربما أكثر من ذلك بقليل فلم تنس أنه أول شخص يخفق فؤادها إليه وإن تسبب في تهشيم روحها وإيذائها نفسيا لكنها كانت على استعداد كامل لمسامحته والعفو عما ارتكبه في حقها من أجل أن تراه بخير. 

نهضت واقفة عندما جاءت إحدى الممرضات تسأل عن أقارب المصاپ نادت في الحال على زوجها بصوت مرتفع ومذعور
تعالى يا عوض الدكتور عاوزك.
استعان زوجها بمرفقيه ليستند على الحائط ويقوم واقفا كانت قدماه لا تسعفاه ليسير فتعثر في مشيه المتخبط إلى أن بلغها فسألها بنبرته اللاهثة
أخويا كويس
ردت عليه بحذر ووجهه يظهر تعبيرا رسميا عليه
اطمن احنا عملنا كل حاجة نقدر عليها بس إنت هتعرف أكتر عن حالته من الدكتور هو مستنيك في مكتبه.
اندهشت فردوس لعزوف الطبيب عن مقابلتهما وتساءلت في انزعاج مستنكر
وهو مطلعش يكلمنا بنفسه ليه
هزت كتفيها قائلة بوجوم
معرفش.
سألها عوض بتلهف ملتاع
أخويا فين دلوقتي
التفتت ناظرة إليه وهي تجيبه
في العناية المشددة ومن فضلك متعطلنيش الدكتور منتظرك هناك.
ثم أشارت إلى بقعة بعينها حيث تتواجد بها غرف الأطباء ودلتهما على الطريق لتتركهما بعدئذ وترحل. أمسك عوض بذراع زوجته جذبه منها وانطلق إلى حيث أرشدتهما قائلا في قلق متصاعد
بينا يا فردوس نفهم في إيه.
سارت معه وهي تضع قبضتها على صدرها تتحسس نبضاته المتسارعة لتتمتم بصوت خفيض
استر يا رب.
أمام السرير الممدد عليه شقيقه الموصول بأجهزة طبية وقف عوض يتطلع إليه بحسرة وحزن فالطبيب أعلمه بمدى الضرر الجسيم الذي وقع عليه خاصة نصفه السفلي وجعله قاب قوسين أو أدنى من المۏت وإن نجا منه بعد إجراءات عمليات جراحية هامة فسيصبح عاجزا حتى يفنى عمره المؤسف في ذلك الأمر أنه لا يملك من المال ما يساعده على سداد تكلفة هذه الجراحات الضرورية كان فقيرا معدما لا يملك إلا قوت يومه فكيف له أن يؤمن هذا الكم الطائل من الأموال لإنقاذه بكى في أسى وۏجع غير مكترث بمن يبصره على هذه الحالة المفطورة من خلفه وقفت فردوس تتأمل حالة بدري بحزن عميق لم تتوقع أن يحز في نفسها بشدة رؤيته هكذا لا حول له ولا قوة! تركت هي الأخرى العنان لدموعها الصامتة تنساب وأصغت إلى همهمة
زوجها المكلوم وهو يرثي
حاله البائس
يا ريتني أملك حاجة ياخويا وأنا مأخرهاش عنك.
لم تفكر فردوس

مرتين وراحت تخبره من تلقاء نفسها
أنا كنت عاينة حتت دهب صغيرة بيعها يا عوض جايز تفيد بحاجة.
استدار قليلا لينظر إليها وقال في حزن شديد يعبر عن عجزه
يا فردوس المطلوب ألوفات واحنا على باب الله.
ردت عليه في إصرار وهي تربت على كتفه
أهي نواية تسند الزير.
التف كلاهما معا نحو فراش بدري عندما سمعا ندائه الضعيف
ع..عوض!
صاحت فردوس في تلهف وهي تدفع زوجها للاقتراب منه
الحق أخوك فاق.
تحرك الأخير ليلتصق بجانب رأسه المستلقي على السرير ورجاه بصوت شبه باك
ماتتعبش نفسك يا بدري أنا جمبك ياخويا.
بينما تكلمت فردوس في سرور حقيقي ظاهر عليها
بركة إنك بخير.
عاد عوض ليقول بامتنان شاكر
ألف حمد وشكر ليك يا رب.
سعل بدري پألم وحاول الكلام فقال بصعوبة وبصوت يكاد يكون مسموعا لكليهما
حقك عليا...
احتضن عوض كف شقيقه بين راحتيه واندهش في توتر وهو يطلب منه
سامحني.
كان الأخير يملك من السمات الحميدة ما جعله يعفو عنه في التو وأفصح عن ذلك علنا بترديده
مسامحك ياخويا المهم عندي إنك ترجع بالسلامة تاني.
مجددا سعل بدري في ألم وحاول أن يخاطبه فخرج صوته متقطعا
أنا.. أنا..
رجاه شقيقه الأكبر بتوسل
ماتجهدش نفسك بالكلام بالله عليك حاول ترتاح.
رغم ضراوة الآلام التي تفتك به إلا أنه أصر على مخاطبته قائلا
اسمعني.. بس...
بدا صوته أقرب لنبرة الوداع حينما تابع بعناء
جايز تكون دي آخر مرة!
ردت فردوس باندفاع نزق وكأن قلبها من يتحدث لا لسانها
بعد الشړ عنك إن شاءالله هتقوم بالسلامة.
اتجه بدري بعينين الدامعتين إلى وجه فردوس واستطرد معترفا في ندم
أنا .. كنت .. ناوي .. أوسخ .. سمعة مراتك .. عشان تطلقها.
شهقت فردوس مصعوقة بعد الذي سمعته وارتجف بدنها بالكامل في حين تابع بدري بصعوبة واضحة
بس ربنا أراد.. يرحمها .. من ظلمي ليها.
وكأن أحدهم قد هوى بمطرقة قاسېة على رأسها فهشمها بلا رحمة استنكرت اعترافه الخطېر بشدة وصاحت بصوت ناهج ومنفعل
إنت بتقول إيه
واصل اعترافاته الأخيرة مرددا
كلام أمي .. عماني وخلاني .. أسعى .. في .. الخړاب.
اشتعلت عينا فردوس واحتقن وجهها بحمرة متزايدة مجرد تخيل احتمالية حدوث ڤضيحة كتلك لها كان كافيلا بتحولها تماما لشخصية هجومية عدائية وغير متسامحة لم تصغ إلى بدري وهو يواصل الكلام رغم صعوبة ذلك عليه
وأهوو.. ربنا انتقم مني .. ونجدها! 
حينئذ انفلتت أعصابها وخرج من بين شفتيها صيحة أقرب للصړاخ جعلت من متواجد بعنبر الرعاية المركزة ينتبه لهم
للدرجادي إنتو إزاي كده
مش وقته يا فردوس!
ردت بعدائية مبررة
سعلة متحشرجة خرجت من جوف بدري أتبعها قوله النادم
خلاص يا خويا مابقاش في العمر بقية سامحني سامحيني يا مرات أخويا.
قال عبارته تلك وعيناه متعلقتان ب فردوس فما كان منها إلا أن وبخته بحړقة
حرام عليك أنا علمت فيكو إيه عشان تفتروا عليا بالشكل ده!
ردت عليها بصوت واهن
ربنا خلص ذنبك مني.
ارتفع صړاخها الموجوع وهي ترفع كفيها للأعلى كأنما تشكوه لمن خلق السماوات والأرض
حسبي الله ونعم الوكيل.
جاءت إحدى الممرضات إلى العنبر ونهرت فردوس على صياحها المزعج
ماينفعش اللي بتعمليه هنا في عيانين وحالات حرجة!
ثم حاولت دفعها للخارج وهي تطلب منها
اتفضلي لو سمحتي.
تجاهلتها فردوس وظلت تلوم على بدري بحنق أشد
هتروحوا من ربنا فين!
تكلمت الممرضة من جديد بلهجة شبه صارمة موجهة هذه المرة حديثها إلى عوض
يالا يا أستاذ.
كانت آخر كلمة سمعها منه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة
ويلقى ربه
سامحني.
انخلع قلبه لرؤية جسده يسكن
تماما فصاح يناديه بجزع فزع
بدري! أخويا!
الأيام التي سبقت هذه الليلة تحديدا مرت عليها مصحوبة بالتوتر والاضطراب ولما لا تصاب بالأرق والارتباك وهي تعلم تمام العلم أنها على وشك الزواج بآخر غير زوجها وبعلمه الكامل أيعقل ذلك مع شخصية ك مهاب كل شيء مباح! لم تعرف تهاني ما الذي يجب عليها فعله الرفض لم يكن خيارا متاحا والقبول كذلك لم يكن أمرا هينا كانت تتحرق بين نارين ورغم ذلك التخبط المقلق إلا أن رضخت في الأخير. عصفت بها انتفاضة قوية وباب غرفة النوم يفتح تخشبت في موضعها متوقعة حدوث الأسوأ لكن هدأت مهاجها الملتاعة مع ظهور الخادمة فقد جاءت لتطلب منها الذهاب إلى غرفة المكتب حيث ينتظرها البقية لإتمام مراسم عقد القران. صرفتها بلطف واتجهت إلى المرآة لتتأمل هيئتها نظرة ملية ألقتها على ملامحها ما زال يعتريها الخۏف وحتى نظراتها تعكس ذعرها. ظلت تخاطب نفسها وهي تحاول مقاومة هذه الرعشة الخفيفة التي تنتابها
هيحصلي أكتر من كده إيه
تحسست صدغها وكذلك جبينها قبل أن تواصل الكلام في هسهسة خائڤة
إنتي اتكتب عليكي تسمعي كلامه حتى لو حاجة مش مريحاكي.
قاومت ذلك الشعور المناقض الذي يناوشها بشأن استمالتها ل ممدوح فهي تخشى من ردة فعل مهاب إن علم أن ارتباطها به يستهويها نوعا ما. تنفست بعمق وقالت في جدية
كله عشان خاطر ابنك.
لكن ما لبث أن اختفت هذه الجدية ليحل الخۏف كبديل عنها نطقت باسمه متسائلة في توجس متعاظم
أوس! طب هقوله إيه 
بهتت تعابيرها وسؤال آخر يلح في رأسه لم تجرؤ على النطق به
يا ترى لما هيكبر هيعرف أمه ضحت بنفسها إزاي عشانه ولا أبوه ممكن يقلب عليا!
لم تذعن لهذا الأفكار السوداوية وقالت في عزم
بلاش أسبق الأحداث خلي الليلة دي تعدي على خير الأول.
الإحساس المزعج الذي لازمه منذ الصباح وحتى هذه الأمسية جعل من غير السهل عليه أن يستدعي سلطان النوم خاصة مع منعه من الخروج من غرفته طوال اليوم والتحذير من مخالفة هذا الأمر. تقلب الصغير أوس في فراشه وظل ينفخ في سأم ضجر من بقائه يقظا وبمفرده لوقت طويل. تنبه لأصوات جلبة غريبة تأتي من الخارج استحثه فضوله على النهوض وعزز من تلك الرغبة القوية شعوره الطاغي بالملل لهذا أزاح الغطاء عنه ونهض من فراشه سائرا على أطراف أصابعه تسلل من غرفته في هدوء واتجه إلى حيث مصدر الأصوات المتداخلة وجد عدة أشخاص مجتمعين في غرفة المكتب كان من النادر أن يرى بابها مفتوحا فوالده حين يعود من الخارج يذهب إليها ويمكث بها لساعات دون أن يجرؤ أحد على الدخول إليه إلا لو قام باستدعائه فيما عدا الخادمة كانت تختفي لوقت طويل وكأنه يعجز عن تفسير سبب بقائها لهذه المدة.
اختبأ أوس في الزاوية وحاول رؤية ما يدور من موضعه دون أن يلمحه أحد وقعت عيناه على والدته وهي تجلس بارتباك لافت على الأريكة عرف ذلك من طريقة هزها لساقيها كذلك استغرب من ارتدائها لثوب أبيض اللون فقد كانت لا تحبذه. حرك بصره نحو من يجلس مجاورا لها وجد رفيق والده السمج يميل ناحيتها ليهمس بشيء في أذنها تشنج وجهه وانزعج من قربه هذا. حجب عنه الرؤية ذلك الجسد الضخم لأحدهم لكنه استطاع أن يلمح عدة أوراق في يده. تحير كثيرا فيما يحدث بينهم أرهف السمع محاولا تفسير تجمعهم المريب ذلك بتفكيره الصغير والمحدود لكنه لم يتمكن بعد برهة انصرف
عدة رجال فتوارى عن أنظارهم لئلا يمسك به
أحدهم فيتعرض للتوبيخ. استطاع أيضا أن يميز صوت والده وهو يقول فجأة
كده نقدر نبارك ليكم.
سمع صوت ممدوح يسأله بجدية
إنت متأكد يا مهاب إنك مش عاوز حد يعرف
رد عليه والده في صرامة
دي حاجة عائلية متخصش حد.
تحرك بصر الصغير نحو والدته عندما تساءلت في صوت مهتز
وأوس!
أخبرها وهو يمد يده بكأس المشروب إليها
هو لسه صغير مايفهمش حاجة وبعدين أمه مارحتش لحد غريب يعني!
رغم صغر سنه إلا أنه شعر بالاستياء لم يسترح له ولم يستسغه وما أكد هذا الشعور المنفر بداخله استهجان أمه الواضح
مايصحش الكلام ده.
ضحك ممدوح ساخرا فاتجه أوس بناظريه إليه ليجده يعلق باستهزاء
هو مغلطش يا تهاني أنا يعتبر من العيلة!
طريقته تلك كانت مقيتة منفرة باعثة على الانقباض راقبه أوس بعينين ناريتين وراح يكز على أسنانه في غيظ حانق منه سرعان ما أشاح ببصره ليحدق في أبيه عندما تكلم
وبعدين الوضع ده مش هيستمر كتير.
تحير في تفسير الأمر وانتبه لوالده وهو يكمل
يدوب لحد ما أرجع من السفر ساعتها كل حاجة هترجع زي ما كانت.
لم يرفع أوس عينيه الحانقتين عن وجه ممدوح حين تساءل بصوته الهادئ السمج
برضوه مصمم
أجابه مهاب بما صدم الصغير تماما وجعل رأسه يتحير ويرتبك
ترضى أشوفك في حضڼ مراتي
ازداد صدمة وذهولا
 

49  50  51 

انت في الصفحة 50 من 79 صفحات